فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



.سورة البقرة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (7):

{خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}
(الختم) قال الأزهري: أصله التغطية، وختم البذر في الأرض، إذا غطاه.
قال أبو إسحاق: معنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [47: 24] كذلك قوله: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} [2: 94 و16: 108].
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم بصير سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما المرض:

.تفسير الآية رقم (10):

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
وقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [33: 32] وقال: {وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} [74: 31].
ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له، مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه.
فمرض المنافقين: مرض شك وريب، ومرض العصاة غي وشهوة.
وقد سمى اللّه سبحانه كلّا منهما مرضا.
قال ابن الأنباري: أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان: فسد جسمه، وتغيرت حاله. ومرضت بالمرض: تغيرت وفسدت، قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ** تتبع أقصى دائها فشفاها

وقال آخر:
ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة ** لفقد الحسين، والبلاد اقشعرت

والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة. ومنه مرض الرجل في الأمر، إذا ضعف فيه. ولم يبالغ، وعين مريضة النظر: أي فاترة ضعيفة. وريح مريضة: إذا هبّ هبوبها، كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة

أي لينة ضعيفة، حتى لا يعفى أثرها.
وقال ابن الإعرابي: أصل المرض النقصان. ومنه: بدن مريض، أي ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومرض في حاجتي: إذا نقصت حركته.
وقال الأزهري، عن المنذري عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها. قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية ** فما يضيء لها شمس ولا قمر

هذا أصله في اللغة.
ثم الشك، والجهل، والحيرة، والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب: تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه اللّه بزيادة المرض، لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.

.تفسير الآيات (17- 18):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين. فهم كقوم سفّر ضلوا عن الطريق، فأقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه ويعقله بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها.
وقيل: لما لم ينتفعوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.
وقال سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: ذهب نورهم.
وفيه سر بديع، وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من اللّه تعالى، فإن اللّه تعالى مع المؤمنين، و{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 153] و{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [16: 128].
فذهاب اللّه بذلك النور هو انقطاع المعية التي خصّ بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} [9: 40] ولا من {كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [26: 63].
وتأمل قوله تعالى: {أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة، لا ملابسة ومخالطة. وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها. فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من اللّه تعالى قائمة. وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بنارهم. ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق. فذهب بما فيها من الإشراق- وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية وتأمل كيف قال: {بنورهم} ولم يقل بضوئهم، مع قوله: {فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} لأن الضوء هو زيادة في النور. فلو قال: ذهب اللّه بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم.
وأيضا فإن اللّه تعالى سمّى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله.
وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبذل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبذلوا الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها!.
وتأمل كيف قال اللّه تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحده}، ثم قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ} فجمعها. فإن الحق واحد، وهو صراط اللّه المستقيم، الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث اللّه به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل.
فإنها متعددة متشعبة. ولهذا يفرد اللّه سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ} [2: 257] وقال تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [6: 153] فجمع سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق. ولا يناقض هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [5: 16] فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم. فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها. وقد صح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه: «خط خطا مستقيما، وقال: هذا سبيل اللّه، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}».
وقد قيل: إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول اللّه تعالى: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [5: 64] ويكون قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مطابقا لقوله تعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه: هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صم بكم عمي.
وهذا التقدير- وإن كان حقا- ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له. ويأباه قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن: هو المنافق، أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه.
وقال تعالى في حق الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [2: 171] فسلب العقل عن الكفار، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين، لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)}
فشبه نصيبهم مما بعث اللّه تعالى به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. فذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيّب، وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى سفل. فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد، والشجر والدواب، فإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب.
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق، ولوازم ذلك: من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب. وهذه حال أكثر الخلق، إلا من صفت بصيرته. فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق، والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته. لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه.
والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبلغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبيه الكفر بالظلمة وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوي صيب.
والمراد: كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا.
قال: والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: أن المثلين جميعا من جهة التمثيلات المتركبة، دون المفرقة، لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه.
وهذا القول الفحل، والمذهب الجزل، بيانه: أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض، لم يأخذ بحجزة ذاك. فتشبهها بنظائره، كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً} [62: 5] الغرض: تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. وتساوي الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر من ذلك إلا بما يزيده من الكد والتعب، وكقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ} [18: 45] المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالافراد غير منوبة بعضها ببعض، وتصييرها شيئا واحدا فلا كذلك، لما وصف من وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة، مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
قال: فإن قلت أي المثلين أبلغ؟.
قلت: الثاني. لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، وفظاعته.
وكذلك أفرادهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.
فصل:
وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة.
منها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه. فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة. وهكذا المنافق، لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم. كان ما معه من النور كالمستعار.
ومنها: أن ضياء النار يحتاج دوامه إلى مادة تحمله، وتلك المادة للضياء بمنزلة الحيوان. فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح، يقوم بها ويدوم بدوامها. فإذا لم توجد مادة الإيمان طفئ كما تطفأ النار بفراغ مادتها.
ومنها: أن الظلمة نوعان، ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور. وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه. فظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة، فمثلت حاله بحال المستوقد للنار، الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.
ومنها: أن في هذا المثل إيذانا وتنبيها على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نورا ظاهرا، كما كان نورهم في الدنيا ظاهرا. ثم يطفأ ذلك أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله، وبقوا في الظلمة على الجسر، لا يستطيعون العبور. فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر. فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح، وإلا ذهب اللّه تعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه. فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار، وبحالتهم يوم القيامة عند ما يقسم النور.
ومن هاهنا يعلم السر في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب اللّه نورهم.
فإن أردت زيادة بيان وإيضاح، فتأمل ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما، وقد سئل عن الورود؟ فقال: «نجيء نحن القيامة على تل فوق الناس: قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى ويضحك قال: فينطلق بهم، فيتبعونه، ويعطي كل إنسان منهم- منافق أو مؤمن- نورا ثم يتبعونه. وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء اللّه تعالى. ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون. فتنجو أول زمرة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفا لا يحاسبون. ثم الذين يلونهم. كأضوأ نجم في السماء، ثم كذلك. ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء». وذكر باقي الحديث.
فتأمل قوله: «فينطلق فيتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم نور: المنافق والمؤمن».
ثم تأمل قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} وتأمل حالهم إذ أطفئت أنوارهم، فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل.
وتأمل قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث الشفاعة: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده».
والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كل معبود سواه باطل.
وتأمل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [68: 42] وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع.
وقوله في الحديث: «فيكشف عن ساقه».
وهذه الإضافة تبين المراد بالساق المذكور في الآية.
وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه تعالى بعد هذا. وذلك يفتح لك بابا من أسرار التوحيد، وفهم القرآن، ومعاملة اللّه سبحانه تعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده، ولم يشركوا به شيئا، هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها، فانطلق بها واتبعته إلى النار.
وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه. فسبحان اللّه رب العالمين.
قرت عيون أهل التوحيد في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم.
ومنها: أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة، التي هي الضلال والحيرة التي سدها الهدى. والمثل الثاني: متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن. فلا أمن ولا هدى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [6: 82].
قال ابن عباس وغيره من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء ورأى ما حوله، فاتقى ما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي في ظلمته خائفا متحيرا. كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم، وناكحوا المؤمنين ووارثوهم، وقاسموهم الغنائم. فذلك نورهم. فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.
قال مجاهد: إضاءة النور لهم: إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضلالة. وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور: بأنها في الدنيا، وفسرت بأنها في البرزخ وفسرت بيوم القيامة. والصواب: أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم، جزاء وفاقا {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فإن المعاد يعود إلى العبد فيه ما كان حاصلا منه في الدنيا.
ولهذا يسمى يوم الجزاء {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [17: 72] {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [19: 76] ومن كان مستوحشا مع اللّه بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد. ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. ويعود عليه عمله بعينه، فينعم ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة، وقرة العين والنعيم، وقوة القلب واستبشار وحياته وانشراحه- ما هو من أفضل النعيم، وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه، واستبشاره؟.
هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه، وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعتالأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده متبوعها والابتهاج بها، والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال ومتبوعه فيها في هذه الدار.
وقد جعل اللّه سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة ونعيما يخصه، لا يشبه أثر الآخر وجزاءه. لهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل النار، وتنوع ما فيها من الطيبات والعقوبات. فليست لذة كل من ضرب في كل مرضاة اللّه بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من إنما سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مساخط اللّه بنصيب كألم من ضرب بسهم واحد في مساخطه.
وقد أشار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أن كمال ما يستمتع به العبد من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما يقابله من الأعمال في الدنيا، فقد رأى قنوا من حشف معلقا في المسجد للصدقة.
فقال: «إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة» فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله، فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.
وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد، وتفاوت الناس في أحواله، وما يجري فيه من الأمور.
قوله تعالى ذكره: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ}.
قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بنارهم فإن النار فيها الإحراق والإشراق. فذهب بما فيها من الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيها من الأذى والإشراق، وكذلك حال المنافقين: ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، وقلوبهم قد صليت بحرها وأذاها، وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاها اللّه تعالى إياها يوم القيامة نارا مؤصدة تطلع على الأفئدة.
فهذا مثل من لم يصبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق، عرف ثم أنكر وأقر ثم جحد. فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى، كما قال تعالى في حق إخوانهم من الكفار: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ} [6: 39] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [2: 171] شبه اللّه تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار، وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، قد شاهدوا الضوء ورأوا النور عيانا. ولهذا قال تعالى في حقهم: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إليه. لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا. فهم لا يرجعون إليه.
وقال تعالى في حق الكفار: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا له، لا بل يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي.
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيا. وإلى الإيمان وحقائقه مناديا، وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعيا، وإلى طريق الرشاد هاديا. لقد اسمع منادي الإيمان لو صادف آذانا واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبا خالية. ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها. وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها. وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشبهات الباطل، فلم تصغ بعد إلى الملام.
ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأسر الهوى والشهوة. وما لجرح بميت إيلام.
وأما الصم والوقر ففي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وقوله: {اولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} [47: 23] وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} [7: 179] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} [41: 44].
قال ابن عباس: في آذانهم صمم عن استماع القرآن، وهو عليهم عمى. أعمى اللّه قلوبهم فلا يفقهون. أولئك ينادون من مكان بعيد، مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقال مجاهد: بعيد من قلوبهم.
وقال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك: أنت تنادى من مكان بعيد، قال: وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون. انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم.
وأما البكم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} والبكم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق.
والبكم نوعان: بكم القلب وبكم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب ونطق اللسان. وأشدهما: بكم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن.
فوصفهم اللّه سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.
والعلم يدخل من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه. وقد سدت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم. ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها} وقد جمع اللّه سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [46: 26] فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره. وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وباللّه التوفيق.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [2: 19].
الصيب: المطر الذي يصوب من السماء أي ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الذي به حياة القلوب، كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان. فأدرك المؤمنون ذلك منه، وعلموا ما يحصل لهم به من الحياة التي لا خطر لها. فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلاث، التي حذر اللّه بها من خالف أمره. وأخبر أنه منزلها على من كذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أو ما فيه من الأوامر الشديدة، كجهاد الأعداء والصبر على الأمر، أو الأوامر الشاقة على النفوس التي هي على خلاف أهوائها، فهي كالظلمات والرعد والبرق. ولكن من علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق. بل يستأنس بذلك ويفرح به، لما يرجو من ورائه من الحياة والخصب.
وأما المنافق فإنه قد عمي قلبه، ولم يجاوز بصره الظلمة، ولم ير إلا برقا يكاد يخطف البصر، ووعدا عظيما وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه. فوضع أصابعه في أذنيه لئلا يسمع صوت الرعد، وهاله مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه، وعظم نوره. فهو خائف أن يختطف بصره. لأن بصره أضعف من أن يثبت معه. فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف، ويرى ذلك البرق الخاطف. فإن أضاء له ما بين يديه مشي في ضوئه. وإن فقد الضوء قام متحيرا، لا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة الأرض والنبات، وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدا وبرقا وظلمة، ولا شعور له بما وراء ذلك. فالوحشة لازمة له. والرعب والفزع لا يفارقانه، وأما من أنس بالصيب، وعلم ما يحصل به من الخير والحياة والنفع، وعلم أنه لابد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم، فإنه يستأنس بذلك، ولا يستوحش منه، ولا يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من الصيب.
فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل صلّى اللّه عليه وسلّم من عند رب العالمين تبارك وتعالى على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ليحيي به القلوب والوجود أجمع، اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيب من الماء، حكمة بالغة، وأسبابا منتظمة، نظمها العليم الحكيم. فكان حظ المنافق من ذلك الصيب سحابه ورعوده وبروقه فقط. لم يعلم ما وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب مما اطمأن به العالمون، وشك فيما تيقنه المبصرون العارفون. فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش في نحر الظهيرة، وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد. وقد ذكر عن بعض الحيوانات أنها تموت من سماع الرعد. فإذا صادف هذه العقول والأسماع والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، جالت فيها وصالت، وقامت بها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر قيلها وقالها. فملأت الأسماع من هذيانها، والأرض من دواوينها، وما أكثر المستجيبين لهؤلاء والقابلين منهم، والقائمين بدعوتهم، والمحامين عن حوزتهم، والمقاتلين تحت ألويتهم، والمكثّرين لسوادهم. ولعموم البلية بهم وضرر القلوب بكلامهم- هتك اللّه أستارهم في كتابه غاية الهتك، وكشف أستارهم غاية الكشف، وبين علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم، ولم يزل عز وجل يقول: ومنهم، ومنهم، ومنهم. حتى انكشف أمرهم وبانت حقائقهم، وظهرت أسرارهم.